السبت، 24 أكتوبر 2009

حتى أنت يا علي ؟


مرت سنوات و أنا على حالي أنزل وحيدا لاشتري العشاء ، كم هي تعيسة الحياة حين لا تجد احدا يشاركك لقمة العيش ، فقدتهم جميعا ... فقدت كل شيء ، خسرت تجارتي في ليلة مجنونة و اتضح لي بعدها ان كل الوجوه التي حولي كانت لا تستطيع تحملي ، و انها صبرت على غروري طويلا طمعا في "اكرامية" من تلك التي كنت اوزعها عليهم !
هذه المرة سأستخدم الدرج بدلا من المصعد كبرت و قلبي ضعيف لن يتحمل الدرج ، كأنني لو استخدمت المصعد سيطول فيني العمر و سأؤخر موتي !
لكن لم يا ترى اريد ان اعيش ؟ هل هناك سبب واحد يدفعني نحو الحياة ؟
سبب يمسك بيدي و ينتشلني من الغرق في دوامة الماضي ؟
كنت افكر في سبب واحد على الاقل لكنني لم استطع حتى ان اخدع نفسي باختلاق سبب واحد !
ضغطت على زر المصعد و انتظرت ، فتح باب المصعد رأيت رجلا يحمل عروسته كانوا ينظرون في عيون بعض ، قبل أن يفتح الباب كانوا في عالم آخر ، الى أن فتح باب المصعد فرأوني ، اصابهم الاحراج و أما أنا فالاحراج كاد يقتلني ، ادرت وجهي و استسلمت للدرجات ، و انا انزل درجة درجة كنت امر على حياتي سنة سنة يوما بعد يوم معها ، كأن باب المصعد عندما فتح انفتح باب في الماضي حيث كنت انا مكان ذاك الرجل
و كانت هي محمولة بين يدي ، حتى هي اكتشفت انها تزوجتني بسبب المال من أجل "الفيلا" و السيارة و اسمي المشهور بين الناس ، حتى هي .
سرت في الشارع ، حتى مدينتي تغيرت بعد أن خسرت ثروتي ، اكتشفت ان هناك عالما آخر غير عالمي المخملي ، في مدينتي لا يرحم عزيز قوم ذل ، لا يرحم من اكتشف انه عاش في سراب طوال حياته ، الآن صرت أعرف كيف ينظر من في الأسفل نحو من في ناطحات السحاب ، كل الناس يبدون تائهين قد ضيعوا الابتسامة عابسين ، ففي مدينتي يعشش البؤس في كل زاوية ، مدينتي الداخل فيها مفقود و الخارج منها مولود !
القادمون من الريف فقدوا نقاءهم بعد ان عاشوا في المدينة ، البعض فقد قلبا احبه في المدينة و لا تزال تراه يهيم بحثا ، المشردون ينتظرون لحظة تنتهي كل آلامهم و هم في داخلهم يعلمون أنها لن تكون الا لحظة الموت !
كأن لمدينتي روح و كيان تنتزع من الناس قلوبهم و سعادتهم و تسلبهم كل ما هو جميل ، في مدينتي المشردون كثر ، صور على الحيطان لمفقودين وضعها أهلهم أملا في العثور عليهم ، و أنا فقدت حياتي في تلك المدينة حتى صرت جثة ميتة لم تغادرها الروح تسير في طرقات المدينة .
في طريق عودتي الى شقتي رأيته هناك في احدى الأزقة، صبي صغير وجهه متسخ من الأتربة و ملابسه رثة حزينة تماما كمدينتي !
ملقى على الارض ضعيف يكاد أن يموت ، حملته و اخذته الى المستشفى مسرعا ، كان صبيا مشردا في هذه الحياة ... كحالتي.
لم يرد علي أو على الطبيب عندما تكلمنا معه ، يبدو أنه أبكم ، اختزن آلاما بعمق بحر و جراحا من أياديهم السوداء و لم يستطع أن يتكلم ، كم يشبهني .
رجعت معه الى شقتي ، أعددت له العشاء ، كان يأكل كانسان لاول مرة يرى فيها الطعام ، رآني لا آكل معه فتوقف عن الاكل و قرب مني الصحن و نظر الي بعينيه الطيبتين وأشار الى الصحن بيده ثم أشار الي "لم لا تأكل؟" نطق قلبه و عجز لسانه ، مر وقت طويل منذ أن ترك أحدهم في قلبي احساسا بأني مهم لكن هذه المرة بصدق ، فقد أخف المديح و الثناء الحقيقة فما كنت أرى الجرف الذي هوى بي نحو الجحيم ، لقد تعلمت في قعر المدينة بعد أن نزلت من الأعلى أن الثروة التي تدوم هي حب الناس ، هذه هي الحقيقة المرة ، مسحت على رأسه و قلت له : أنا أكلت ، كل انت .
دققت في وجهه البريء و رحت أسرح في أحلامي أمام عينيه الواسعتين و شعره المجعد و أنفه الأقنى المستقيم و فمه الصغير و ذقنه الدائري يا ترى كيف سيكون شكله عندما يكبر ؟ أريد أن أعيش حتى أراه يتخرج من الجامعة ، أريد أن أعيش حتى أراه يتزوج و يرزقه الله بأولاد و بنات ينادونني جدي ، قبل ساعات كنت حائرا لا ادري لم اعيش و الآن انبعث هذا الصبي من الموت و أمسك يدي و انتشلني من الموت أنا أيضا ليقدم لي سببا كي أعيش .
راقبته و هو يستسلم للنوم و غطيته ، في تلك الليلة كنت ابكي تارة و تارة افكر هل هذا هو الصبي الذي تمنيته طوال حياتي ليرث اسمي و يصبح خليفتي ؟
لماذا تأخر ، لماذا أتى الآن بعد ان خسرت كل شيء ؟
لكنني تذكرت انني في الحقيقة لم اخسر شيئا لانني لم أكن أصلا املك شيئا !
و ربما كان من الأفضل أن يأتي الآن في وقت فقري لكي لا تغيره الأموال و تعمي عيونه كما غيرتني ، فكل ما كان حولي نفاق و أقنعة زالت ما ان زال سبب وجودها حولي ، و الآن أتى هذا الصبي ليكون الشيء الوحيد الصادق في حياتي ، انقطع حبل أفكاري على صوت فتح باب الغرفة ، دخل ووقف بالقرب مني رآني أبكي فاستغرب ، مسح دمعة سقطت على خدي بثوبه المقطع ، هذا الثوب رغم أنه بال الا أن الصبي استطاع بدفء قلبه أن يجعله أنعم من الحرير ، اراد ان يتكلم فلم يستطع لكن القلب النقي لا يحتاج الى كلمات كي نفهمه ، قلت : لا عليك بني دموع الماضي لا بد منها ، مسحت على رأسه و عندما رآني أتبسم من جديد بانت عليه علامات الارتياح ، قلت : انا بخير لا تخف ، وقف أمام النافذة ، قلت له : غدا سأشتري لك لباسا جديدا و سأسجلك في المدرسة، لم يبال الي ما قلته و سرح أمام النافذة يراقب الشارع الذي أتى منه ، وقفت بالقرب منه ، و نظرت الى عينيه الواسعتين و قد حوت آلاما كبيرة "لم أذرف دمعة رغم كل الأحزان" هكذا فهمت من تعابير وجهه أنه حاول ان يقول.
فمن أين له كل تلك القوة على الصمود ؟
و من أين لصبي صغير أن يكون له قلب كبير كهذا ؟
كنت انا و هو لوحدنا في مواجهة عالم مهول مليء بالقلوب السوداء و بالبؤس و التعاسة، كنا نقف أمام النافذة ننظر الى هذا العالم كعصفورين جريحين في يوم من الأيام اعتدنا أن نطير ، و اليوم أصبحنا في قفص ، لم اعرف اسمه و ماذا اناديه فسألته : بني حبيبي ما اسمك ؟
فكر قليلا لكنه لم يعثر على جواب ، حتى هو كان يبدو عليه انه لا يملك اسما ، قلت له : لا بأس فحتى أنا لا اتذكر اسمي لأنني اكتشفت بعد افلاسي انني لست الشخص الذي أنا أعرفه حينما كنت أنظر في المرآة!
سأسميك "علي" كما كنت احب ان اسم ولدي لو زرقت بواحد ، أشرت اليه بسبابتي و قلت : أنت علي ، و أشرت الى نفسي و قلت : انا فارس ، ابتسم فعرفت أنه فهم ، كان فرحا باسمه الجديد !
كأنه اعطي مع الاسم حياة جديدة و نهاية للتعاسة .
خرجنا في الصباح الباكر ، اليوم سأسجله بمدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة ، كان صبيا موهوبا سريع البديهة حاد النظر مشرق الوجه رغم كل مآسيه ، كنت أسير معه الى تلك المدرسة و كان سعيدا بحياته الجديدة و كنت سعيدا بوجوده في حياتي ، صاح أحدهم بأعلى صوته : محمد ! محمد !
ظهر شاب في منتصف الثلاثينيات ، ضم ابني علي بشدة و بكى بهستيريا ، حاولت ان ابعده عن ابني علي لكن علي كان هو أيضا يضمه و يبكي ، حينها نطق علي : أبي أبي !
ابعدته عنه و صحت في وجه الرجل : ليس محمد بل علي انه علي الا تفهم ان اسمه علي ؟! علي أقول لك علي ألا تفهم ؟!
قال :انه محمد ابني الذي ضاع مني ، مر شهران و نحن لا ننام الليل نقلب كل ركن من اركان المدينة نبحث عنه ، " الحمد لله الحمد لك رب على كرمك " دعا ربه و كان يبكي بحرقة ، هرب علي و اختبأ خلف الرجل و كأنه لم يعد يعرفني !
حتى انت يا علي ؟
نطق علي الا أنه لم يشأ أن ينطق الا مع أبيه الحقيقي لا مع حطام انسان ..
حتى علي ابني الوحيد اكتشفت انه ليس ابني ....
حتى علي ابني الوحيد تركني لوحدي لأواجه العالم الأسود ...
حتى أنت يا علي كنت سرابا ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" المال يستر رذيلة الأغنياء و الفقر يغطي فضيلة الفقراء"
أمير المؤمنين علي (ع)
" أبصر الناس من أبصر عيوبه ، و أقلع عن ذنوبه "
أمير المؤمنين علي (ع)
" أعظم الجهل جهل الانسان أمر نفسه "
أمير المؤمنين علي (ع)

9 التعليقات:

Dr. Red Devil يقول...

ابداع يا بونبيل، منزمان ما كتبت شي بهالمستوى :) بس احس ان لازم تزيدها شوي بالاخير لان النهاية وايد مفتوحة

a7mad Nabeel يقول...

مشكور بوشهاب عالمرور
الحلو ما يكمل بس حسيت انه بطل القصة خسر كل شي و راح يبقى تعيس باللي بقى من عمره هذا كان تصوري حق النهاية
عالعموم مشكور مرة ثانية لانك من الناس اللي دايما يشجعوني :)

غير معرف يقول...

مساءك توت


على طول الغياب


كانت القصة مُرضيه...

ولأنها أجمل من أن تضيع وسط العتب

على إنتظاري للجديد..فلاعتب..


أعجبني إنتقاءك للمفردات

والسرد اللطيف المحبب إلى النفس...

النهاية بالنسبة لي كانت حكمه
اكثر من أن تكون مجرد نهاية...

لاعزاء لأمثال هؤلاء..سوى أنهم (قد) يكونو عبرة لمن يعتبر...


تحياتي أخي..


دام نبضك

a7mad Nabeel يقول...

سلة الميوة العزيزة
ـــــــــــ
شكرا على التوت :)
أسعدني مرورك و اعجابك بالمفردات و السرد ... هذا من ذوقج
النهاية رغم انها قد تكون غامضة لكنني حاولت من خلالها ان ابرز العبرة و الهدف من القصة
أما طول الغياب فالمشكلة في أن الوحي لا يهبط علي بشكل ثابت !

لا تحرمينا من التوت :)

Reem AlHajri يقول...

مؤسف أننا دائماً ما نتعلم في وقت متأخر .. لو أننا نجد الإيمان الصادق في قلوبنا ، لما غرنا شيء في دنيانا ..

قصص الفقر و الغنى تمثل أشياء كثيرة في مجتمعاتنا ، و صياغتك للفكرة ماشاءالله جميلة :)

كل الشكر ..

روان يقول...

احيانا يكتب على ناس الشقاء لاسعاد غيرهم ..
قصة جميلة ذات هدف وقيمة
تحيتي لك :]

ZooZ "3grbgr" يقول...

ما أقدر بس أمدح

لازم أقولك إني عشت في القصه أحزانه

وأحسست بأنه يحمل انكسار مدفون داخله

سو

أطالبك بحلقه ثانيه

مذكرات ثري سابق

:")

Manal E. AlNuaimi يقول...

مساك خير أحمد ..

يعطيك العافية على الاسلوب ...

تمنيت نهايتها ما تكون مفتوحة ..

غير معرف يقول...

ها أنا ذا ثانية ً اعجز عن التعبيرن على أنغام البيانو صديقي الوحيد :) أبدعت يا أستاذ أحمد، فأنت حقا ً تستحق لقب استاذ