الخميس، 31 يوليو 2008


لو أنه لفمي كاتم للصوت كما للمسدس
لما جرح أحد بالرصاص المنطلق من فمي !
لكنك يا عزيزي لن تصمد يوما في هذا الزمان
لو لم يكن في فمك مسدس !


و هو في الصغر لم يفهم يوما الحلم الذي كان يتردد عليه في المنام ، قطار يأخذ بالتسارع يمر في نفق مظلم طويل ، لكنه بعد مدة يخرج من النفق ليصل الى جنان لم ير مثيلا لها قط ، لم يستطع أحد أن يجيبه حين كان يسأل عن هذا الحلم لكنه سيعرف في النهاية تفسيره ...
في أول يوم عمل كان كثيرا ما يقال له أن المصاعب تكون في البداية ، و أنه اذا تجاوزها سيصل بر الأمان ، لكنه و بعد مرور الوقت اكتشف أن بر الأمان كان أبعد مما تصور ، و ان الصعوبة تكون حين يتأقلم مع الحياة الجديدة!
لا مكان للخطأ كما أنه لا مكان للراحة، عليه أن يواجه في كل يوم اختبارات عديدة ، حياته أصبحت أِشبه بفيلم صامت بالأبيض و الأسود بلا طعم بلا روح ... هو طبيب بعيد عن موطنه غيرت ظروف العمل ملامح حياته، لم يستوعب سريعا أن حياته تغيرت الى الأبد ، و ان قطار الحياة أخذ بالتسارع و لن يتوقف حتى يصل الى آخر محطة ، ظل يرتقي في مراتب العمل و مع ارتقائه كان في كل يوم يفقد جزءا من قلبه الأبيض وشيئا فشيئا كان ظلام النسيان يكبر فتذبل ذكرياته السعيدة ، مسكين الانسان فهو في عمره كرسام يرسم لوحة وكلما تقدم في العمر ازداد تركيزه على التفاصيل و نسي ماذا يرسم ! لكن بطلنا لم يستسلم و ظل متشبثا بما تبقى من أمل و ربما لهذا السبب سيفيق من غيبوبته ...
و في ليلة كباقي الليالي بعد أن انتهى من عمله كان في طريقه عائدا الى بيته ...
كان يمشي بالشارع و يجر خلفه أحزانه . حين يشعر الانسان بالوحدة يتغير العالم في عينيه.
كان يمشي و لوقع أقدامه صدى شق سكون الليل ، و في منتصف الطريق بدأ ضوء القمر يموج بمد و جزر فكان ضوءه يطغى تارة و أخرى يطغى الظلام ، نظر الى القمر و كأنه يبادله النظرة قال : ما بالك يا قمر تبكي قد أحزنت النجوم بجوارك ؟ يا قمر كلمني و عن همومك أخبرني و تعال فلنتشارك ولنتحدى من منا يحمل أكثر الآلام ؟ مد له القمر من نوره سلما من حرير، تردد لحظات، لكنه قرر أن يصعد ...
و فجأة ! اصطدم به شخص مسرع كان يحمل أوراقا و صورا فتبعثرت منه ، لاحظ الطبيب أن بعض الصور كان ملونة و بعضها كانت بالأبيض و الأسود ، لملم الرجل أغراضه على عجلة و قال عذرا اخي و مشى مسرعا حتى ابتلعه الظلام...نسى صورة كان قد أوقعها فصاح : يا سيدي ، لقد نسيت صورة انتظر ، وقعت عيناه عليها و اذا بها صورته حين كان طفلا صغيرا!
قال الطبيب باستغراب يا سيد من أنت و هل تعرفني ؟ ظهر الرجل مرة أخرى و قد بدى وجهه مألوفا قال ألم تعرفني بعد ؟ قال له سامحني شكلك يبدو مألوفا لكنني لا أذكرك ، قال الرجل: أنا سنين عمرك التي فاتت بلا رجعة، انا شريط ذكريات سعيدة و حزينة تمردت على النسيان ،انا دموع و ضحكات على شاطئ الماضي تبعثرت ، صاح الطبيب بلهفة ممزوجة بالأمل ذكريات سعيدة ؟! ارجوك خذني معك و لنعيش من جديد لحظات الماضي التي دفنتها الأيام ، فجأة وجد الطبيب نفسه في قطار متوقف، نزل من القطار فرأى مروج بلاده الخضراء و كالعروق انتشرت فيها أنهار شديدة النقاء نظر الى الأعلى فرأى السماء صافية و كأنه لم يرى من قبل السماء ، تقدم بضع خطوات فرأى طفلا كان يجلس تحت شجرة تذكر أنه هذا الطفل !
حاول أن يقترب أكثر لكن الطفل طار بأجنحة خياله الى الفضاء الرحيب و أخذ يتسابق مع الرياح تعب فاستراح على متن غيمة !
أغمض الطبيب عينه وتبسم من قلبه و هو الذي ظن أنه نسي كيف تكون البسمة، قال كيف لي أن أنسى كل هذا ؟
كيف انسى بيتي ؟ كيف انسى احلامي الصغيرة ؟ كيف أنسى المنارة التي أَضاءت ظلام حياتي امي ابتسامة أحلى من الشهد ،أأنسى أبي الحصن المنيع ..أأنسى كلماته التي رست جذورها في أعماق روحي ... جزاك الله خيرا يا صديقي فقد أطلقت طيرا سجن نفسه في قفص .
وصل المنزل و كأن روحه عادت من جديد ،كانت نيته و ارادته أن يتغير و كانت أول بوادر التغيير أن يتصل بأمه ،و قبل أن يرفع السماعة ليتصل سبقه رنين الهاتف !
رفع السماعة و صوت الصياح كان يعلو ، لن ترى امك بعد الآن ... لن ترى كتلة الحنان ...
سقطت السماعة و قبلها سقطت دموعه
اصطبغ الكون من حوله بالسواد
بحسرة ظل يبكي كل لحظة أضاعها من دون أمه العزيزة ، على قبرها غرس جسده كشجرة و سقاها كل يوم من تلك الدموع ، ظل ينوح امي ليتني مت قبلك ، امي هل تذكرين يوم مرضي حين كنت أنت الدواء ... امي كم مرة أردتي فيها رؤيتي فرددتك خائبة امي سامحيني ...
أفاق من حلمه على صوت رنين الهاتف امسك السماعة و يداه ترتجفان خوفا
تغلغل في جو الغرفة صوت رقيق .. بني كيف حالك هلا زرتنا فقد اشتقنا إليك ؟؟