الجمعة، 9 ديسمبر 2011

ديكتاتورية الشتاء ... قصة قصيرة






الخامس من حزيران يونيو السنة العشرون بعد الألفين، بلغتُ الثلاثين من العمر، لكن بعد سن الثلاثين لم يتغير شيء، أنا كما أنا و ليس كما توقعت أنني سأكون، لا زالت الرؤية ضبابية، لست متأكدًا من أي شيء، لست متأكدًا من معتقداتي في الحياة، لا يزال الشك يتغلغل في كل شيء فيني، في أساسات الأشياء، في أحداث الماضي و الحاضر و بالتأكيد شك كبير بالمستقبل، لكن ألاأزال صغيرًا بالعمر كي أفهم كل شيء؟
لا أدري، ربما ثلاثون سنة في عمر انسان يبحث عن الحكمة لا شيء يذكر، لازلت صغيرًا فلا بد أن لا تتضح الرؤية و تبقى هكذا حتى يأتي اليوم الذي أصل فيه لليقين، لكن هل سأرتاح عندما أصل للحقيقة؟ لا أدري!
ربما طبيعتي كانت القلق و الشك، فأنا انسان يشك حتى في شكه و لم أجد شخصا ليس لديه شك في شيء بالحياة، الا سالم الذي كان يرى الأمور بوضوح ربما زائد عن اللزوم!
يا ترى أين سالم الآن؟ هل هو سعيد؟ هل هو حي ؟!
لا أدري، كل ما تبقى من سالم هو هذه الوريقات المقطوعة من دفتر يومياته.
كم هو انسان غريب لم أقابل مثله قط، يلتف به غموض ساحر، صامت طويل الصمت و التأمل، عميق شديد العمق في كلامه و أجوبته، يرى في كل الأشياء زوايا لا نراها.
لا زلت أذكر كانون الأول ديسمبر في السنة الحادية عشرة بعد الألفين، أول شتاء انجليزي يمرعلينا هناك نحن الذين جمعتنا الدراسة في الغربة، و لا زلت أذكر ذاك اليوم الذي جلسنا فيه في الحديقة الخلفية للبيت الصغير الذي جمعنا نحن الخمسة، أنا و محمد من السعودية و نزار من الجزائر و حسين من البحرين و سالم من ليبيا، هناك حيث جلسنا و جلس سالم، حيث تبادلنا الأحاديث و صمت سالم، حيث ضحكنا و تبسم سالم، لاحظت أن النار التي أشعلناها لفتت انتباهه و أنه كان يتأمل فيها طويلا.
بعد أن تفرقوا في تلك الليلة بقيت أنا و هو جالسين وسط الصقيع، سألته عن ما يشغله و عن السر في تأمله الطويل بتلك النار، لكنه لم يجاوب، كان ناجحا لأقصى حد في كتم الأسرار، فاهمًا لما يجري حوله يملك رأيًا في الأمور و عندما يعرض رأيه يجعلك تشعر بوضوح الرؤية، حسدناه لأنه كان يرى الأمور كأنها في قاع نهر صاف، و أحببناه جميعنا و لجأنا إليه في أي مشكلة.
لم ألح في سؤالي عليه و رأيت في عينيه المتألمتين شكرًا لي على ذلك، ربما لذلك كافئني فيما بعد، مرّت فترة طويلة منذ تلك الحادثة، مرت أربع سنوات، أخيرا سنعود، كل لبلده مع ذكريات جميلة و شهادة.
قبل أن يرجع لبلده أعطاني تلك الورقة المقصوصة من دفتر يومياته، قال لي:
"لقد سألتني ذلك اليوم بم كنت أفكر، سأعطيك تذكارا مني، جزءا مني ليبقى معك يا صديقي العزيز"
قص الوريقات من الدفتر البني الداكن المصنوع من الجلد و أعطاها لي.
و هذا كل ما تبقى من (سالم مجدي القاضي):

20-12- 2011
مضى شهران على المخاض العسير، ولادة أمة من جديد، موت الطاغية، و بأي ثمن؟
و غريبة هي تلك اللحظات التي يذل فيها المتكبر ذو الجبروت الذي كان يومًا ما ترتعد الفرائص عند سماع اسمه و تكاد تتوقف القلوب لوقع خطواته، و لأن وصف المشاعر صعب وفهم النفس أصعب و أصعب فاننا لا ندري من أي زاوية من زوايا النفس يأتي ذاك الشعور الذي يختلجنا عند تلك اللحظة، لا ندري كيف يتغلغل فينا احساس بالتعاطف معهم بعد أن كنا ننتظر هذا اليوم بفارغ الصبر، انها ربما قدر الاحلام التي تتحقق، تماما كقدر أي شيء نتملكه في هذه الدنيا الزائلة، الحلم جميل بشرط أن يبقى حلم، و أفضل انا أن أظل أدور في متاهاته الى الأبد، ربما الشعور بالضياع و مرارة الصبر أهون من الوقوع و التهشم على صخرة الحقيقة، فالحلم الذي لطالما انتظرناه بفارغ الصبرعندما يتحرك من تحت الظل ليقف تحت شمس الحقيقة يبدو بشعا !
و سرعان ما تزول رغبتنا فيه و تنطفيء حماستنا و نبقى حيارى نتألم ، فنداوي الألم بحلم جديد، كل تلك المشاعر تتدفق في قلبي و انا أشاهد طاغية يذل أمامي، تماما كتلك النار التي اشعلوها وسط الحديقة.
في الحديقة الخلفية للمنزل الذي أجرناه تجمعنا، خمسة قادمون من مكان بعيد عن هذا المكان، لكل منهم قصة و حكاية، كانت عطلة نهاية الاسبوع في أحد من الآحاد الباردة بل المتجمدة، و من غير المألوف لنا نحن العرب أن نلبس كل تلك الطبقات من الملابس الثقيلة، لوهلة بدا لي أن شيئًا مختلفًا لم ألاحظه إلّا الآن، في الحديقة و في كل الحدائق، كيف لم ألاحظ من قبل أنَّ الألوان صارت باهتةً هكذا ؟
هل هذه جريمة ارتكتبها أيادي الشتاء هنا ؟ أنْ يتحولَ كلُّ شيءٍ إلى الوانَ رمادية ؟
اشتروا حطبًا من السوبرماركت كوموه على شكل هرم و أشعلوا النّار وسط الحديقة و تجمعوا حولها، يريدون أنْ يستمتعوا "بالشتاء الغربي" الذي لم نتعود عليه !
لكنني لم أرَ أيَّ شيءٍ يثير الإعجاب في هذا الشتاء، بل كنت أشعر بالاندهاش و الغرابة !
هذه النار التي تكاد تموت من البردِالقارس، أهي النار التي عرفتها في بلدي ؟
هذه النار التي تشتعل على استحياء، هل هي النار التي ستحرق يوما ما المذنبين من البشر ؟
اذكرها جيدًا من أيام الطفولة، عندما لجأت اليها هرباً من بردِ الصحراء، فرأيتها أمامي تتراقص و تنير الظلام و تعدني بالأمان و الدفء، اقتربت منها و مددت يدي كما مد أبي آدم عليه السلام يده للفاكهة المحرمة، الألم الذي يحدثه جمال صارخ لا شيء يذكر أمام ألم الندم، تلك النار كم هي مستكبرة و متجبرة و حارقة و متفاخرة، و كأن لها نظرات تهديد ٍو وعيد بأن الزم حدودك و لا تقترب، تماما كبعض البشر الذين يعرفون أن يرسموا لأنفسهم حدودا مؤذية، بعكسي أنا.
انها بالتأكيد هي ذاتها النار التي أحرقتني، ياللعجب !
تغيّرُ حالِها جعلني أتساءل: حتى النار؟
حتى النار تدور بها الدنيا فتغدو مستعبدةً لهذا البرد القارس؟
حتى النار التي أحرقت من قرر ان يخوض لعبتها الخطيرة دون وعي بالعواقب؟
حتى النار في الغرب أنيقة خلوقة و متواضعة ؟!
كثيرا ما ننسى أنَّ لكلِّ شيء وجوهٌ عديدة، حتى الناّر لها وجوهٌ عديدة، فالنار هي الدفء و النور و الأمان ، و الألم و الحرب ... لو أردنا !
كنّا نضحك و أنا كنت معهم، لكنني كنتُ أراها تتعذب بصمت، يا ترى هل تتمنى الموت ؟
هل تريد ان تموت لانها تريد أن تنهي آلامها الباردة بفعل طعنات الرياح المستمرة؟
أم أنها تعودت على الشموخ و الكبرياء فما عادت تطيق أن تعيش ذليلة ضعيفة خافتة في حياة استعباد الشتاء ؟
كنا نضحك و انا كنت معهم، بينما النار تتعذب بصمت، انه قدر البسمة أن تكون أحيانًا في مواجهة مع الألم، ببساطة ذلك مشهد يتكرر عند البشر !
البرد قارس، البرد قاسي، لكنه محتوم، يعري الاشجار من أوراقها فتبدو الشجرة كقلب بشري متخشب تجمدت الدماء في عروقه التي تتشعب منه في كل الاتجاهات ... واعجبي ! أذاك الشجر أم أنه قلبُكِ؟
البرد قارس البرد قاسي لكنّه محتوم، تتجمد لسلطته الأنهار و البحيرات و يمنح بتعال مقنعٌ بالكرم راحةً طويلةً للكائنات فتخوض في سباتٍ عميق، تنسى فيه مآسي الدنيا و مشقة الأرزاق، أمّا البرد فيتآمر مع الغيوم الرمادية ليجعل الشمس تبدو كعجوز ذات تجاعيد تحتضر لا تستطيع أن توصل حبها الدافيء للناس كما كانت تفعل في السابق.
من حيث آتي، الشتاء مقصوص المخالب قصيرٌ و مؤدب لا يؤذي أحدًا، لذلك أنا لا أعرف شيئا عن الشتاء، فلم أكن أدري أن هذا الشتاء الأبيض ها هنا في عاصمة الضباب عندما يعتلي سدة الحكم يحكم بقسوة و يعاقب من لا ينصاع لأوامره، لكنه رغم القوة الهائلة و الجبروت يتوقف فجأةً على أعتاب قلوبنا و يبدوعاجزًا عن الدخول ليستعبد نيران الحب و الشوق فينا كما يفعل بالنار التي تجَمَّعنا حولَها، بل العكس تمامًا، فبعض البشر يستطيع بنار قلبه أنْ يُدْفء شتاء بأكمله فقط بدفء الحب.
ستعرِفين دكتاتورية الشتاء عندما يكَتُب لك القدر أن تزوري عاصمة الضباب، أنا أعرف أنَّكِ تعتقدين أنَّ هذا الشتاء سيقتل نيرانِك بقلبي، لكنِّك لا تعرِفين شيئًا عن النار و الشتاء!
سألتِني مرةً، هل يموتُ الحُب ؟
فاجبتكِ بسرعةٍ أنّه لا يموت، فهل تعرفين لماذا لا يموت ؟
في قلوبنا عندما تشتعل نيران الحب يكون حطبها الذكريات، هناك كلما تسلَّل بخبثٍ النسيان ليخطف صورةً من شريط الذكريات أحرقته نيران الحب، نعم قد تخفُت بعد مرور الوقت لكننا بلا سلطةٍ أو ارادة نُغذِّيها حطبًا من الذكريات فتشتعل و تشتعل و تستمر إلى الأبد، فلا تنطفيء نيرانُ الحبّ و لو بألفِ ألفِ شتاء !
و كان رَدُّكِ العجيب بأنَّ الحبَّ وهمٌ حتى تثبت براءته !
و أنَّه يُمكننا إعدام الحُب بلا محاكمة، و أنه يمكن حبسه بالقلب بلا تهمة و بلا أن نفصح به لأحد، ربما للأبد.
لكن ما كان لم يكن وهمًا فنحن الذين ننتزع الواقعية من الحب ليبدو جثةً شفافةً ملقيةً بلا روح و نحن الذين نمنحه تلك الواقعية كي تعُود له الحياة، و ما كانت تلك الكلمات إلا لكي تقتلي الحب في داخلي، لكنني و بسرعة أخفيته عن كلماتِك و خبّأته و داويتُ جراحه المثخنة بفعلها بدوائي المفضل، ببلسم كل يداوي كل الجراح، بالأحلام !
و لا يزال ذاك الحب صامدًا رغم الجراح و رغم قسوة البرودة، و لا يزال يكبر.
غريبٌ هذا الشتاء، يُشِبهُكِ، ساحر بياضه الخلَّاب، لكنه قاسٍ... و وراء قسوتِه هناك مكان دافيء لطالما تخيلت وجوده و لم أستطع بلوغه بعد.
فلماذا تخفين ذاك المكان عني؟
أسئلة كثيرة تطرق بابي فأردها من حيث أتت خائبة.
لماذا عندما أقلب صفحات الكتب تكونين بين الأسطر؟
فكأن كل شيء صار يبدأ بعيدا كل البعد عنك لكنه ينتهي إليك، كل شيء، كنت أتأمل كل وردة أمر عليها بحثًا عنك و لطالما كنت أجِد وجهًا من وجوه الشبه بينها و بينك، و الآن بعد أن فعل الشتاء فعلته بالورد، أين سأبحث عن شيء يشبهك ينسيني البعد؟

سأجرب في القمر !

هذا الشتاء يُشبِهُكِ، مشاغبٌ مثلكِ، فهو ينتظر و ينتظر و ما أَنْ ننسى النافذة مفتوحة حتى يندسَّ بيننا مُتسللاً، و أنتِ أيضًا تُتقنين فنون التسلل للقلوب !
تظهرينِ لي في كل شيء لكنّكِ فجأةً تختارين الإختفاء، أكون منهمكا في القراءة على مكتبي، يمر من خلفي طيفكِ يلمسني بشغب على كتفي و يهرب فلا أرد عليه، يعود ليكرر فعلته لا أُعيره أيَّ انتباه، يختفي كي يوهمني أنه تعب المشاغبة و بعد فترة يعود ليظهر و أراه بطرف عيني من نافذتي يمشي وحيدا في الشارع، لا ألتفت إليه فيختفي، يظهر لي في الحلم و هو يبتسم لي لا ألتفت اليه حتى في الحلم، لأنني أميَّز السراب من الحقيقة كما أميز أنَّ هذا الحب حقيقي ... حقيقي رغم كل الشكوك و رغم كل التساؤلات التي تئن من ألم الفراغ، من ألم انعدام وجود الأجوبة.
فهل كنت أنا مزار كلماتك ؟
هل كنت أنا حج خيالك طوافا و سعيا ؟
أم كان قلبي هو الاضاحي ؟

لا أملك أجوبة، كل ما في جعبتي تساؤلات و صور بالذاكرة لقلب وضعه صاحبه في صندوق محكم الاقفال موضوع في برج عال بلا سلالم أو درجات يحيط به بحر عميق عميق ربما غرق فيه الكثيرون، لكنني سأحاول.
سأحاول لأن الدنيا خيرتني بين الموت و الحب، بين الحزن و الحب، بين الليل و الحب بين الصحراء و الحب.
كُل ما أملكه تساؤلات و صورة لك تقفين فيها وسط بحر من تباع الشمس يحيط بك.
أنا يا عزيزتي تباع الشمس ذاك، الذي تقفين وسطه و تلتقطين الصور، فهل تعرفين قصته؟
تباع شمس بلا شمس لسنين، تباع شمس لم يدري أنَّ هناك أصلاً وجودٌ للشمس ... حتى رآك!
أنا و أنت ... و العاااااالم، بل أنا و أنت عالم ... و هؤلاء عالم، تأملي في الكلمتين (أنا و أنت)، هل هناك أجمل ؟
تعبت من الصبر، فمتى ينتهي الشتاء ؟
و أي شتاء ذاك الذي انتظره ان ينتهي؟
شتاء لا يرحم حتى الحب الصادق، شتاء يجعل القلب يتوقف عن النبض بلا رأفة، إنه هو و لا أحد غيره إنَّه حتمًا ذاك الشتاء، شتاءٌ من صنع أيادي البشر، فشتاء الله يرحم القلوب لكنَّ شتاء البشر لا يرحم، شتاءُكِ لا يرحم، لكن لكل شتاء نهاية و لا بد أن يذوب كل الجليد الذي تضعينه حول قلبك ليأتي الربيع و تزدهر حياتنا ...

صاح أحدهم: " انطفأت النار" !

انتهت