الثلاثاء، 12 أبريل 2011

عازف الناي




لم يا عازف الناي الحزين عزفت ؟
أنا كلما سمعت صوت الناي ذكرته ، فالآن وددت لو دام صوت الناي للأبد ، و القلب أطلقته و قد كان سجين ، فبت تائه بلا قلب ، فقد سافر قلبي يبحث في كل الصحاري القاحلة عن وردة من أجلها كنت يوما ما أعيش و من أجلها انعزفت تلك المقطوعة الحزينة ، لكن ألا يعرف القلب أن الورد لا يعيش في الصحاري الخاوية ؟
بل يفضل قصور الأمراء و السلاطين حيث البساتين و الأنهار ؟
يا عازف الناي الحزين...
أنا لا أدري كم غروبا للشمس علي أن أعيش قبل اللقاء به مرة أخرى، و رغم أنني أدري أنه لم يعد ملكا لي لكنني أشتاق لرؤيته و أعرف أن سعادة اللقاء به سرعان ما ستنتهي و يبدأ الليل من جديد...






معزوفة حياتي ... البداية

شيئا فشيئا باتت القرية تصغر حتى تلاشت عن أبصارنا
أغمضت عيني فما عدت أريد أن أرى شيئا من هذه الدنيا
لكن القلب كان لا يزال يراها هناك … جالسة تبكي علي
لازلت أستغرب كلما تذكرت أيام طفولتي
كيف لنا أن نحب و نحن لم نزل صغارا، و أن نتعلق لهذه الدرجة و نحن لم نفقه من هذه الحياة شيئا ؟
كانت تبكي علي عند باب كوخها الصغير
أما أنا فكنت أخفي دموعي ، ففي قريتي الصغيرة لا يبكي الرجال !
الدرب طويل كأنه لا ينتهي ، فكيف لقروي مثلي لم يعتد على السفر و كان أبعد مكان وصل إليه هو أطراف قريته أن يعرف شيئا عن السفر؟
ماذا سيحدث لكوخنا الصغير حيث نشأت و قضيت أجمل أوقات حياتي ؟
ماذا سيحدث للشجر؟ و للنهر الذي أعرفه جيدا كما أعرف أهل القرية ؟ و ماذا سيحدث لمن أحب ؟
صعب علي أن أفارق أشياء قد تبدو للبعض بلا قيمة ، لكنني كبرت معها و تعودت أن تكون موجودة حولي و أصبحت بعد فترة كجزء من جسدي من روحي من كياني
و الآن ... الآن عند اللحظات الأولى لغيابها عن بصري شعرت بالفقدان و بأن جزءا مني بل أجزاء قد باتت مفقودة.
قطعت القافلة خمسة أشهر كي تصل لأرض الحرير أو (الصين) كما أطلقوا عليها ....






أرض الحرير

في الصين وقفت متسمرا أمام عالم كالخيال !
أوراق الشجر غير أوراق الشجر التي عرفتها فمنها الحمراء و منها البرتقالية و منها الوردية
تمتزج تلك الألوان و تلبسها الفتيات أثوابا من حرير
البيوت مصنوعة من الخشب و بها تقوسات عند السقف ، و حتى بيوتهم تتلون بألوان طبيعتهم الخلابة
البحيرات تتناثر في كل مكان تعكس صورة البساتين الخضراء التي تتنوع فيها ثمار لم أر منها من قبل !
حتى ليل الصين لم يكن كباقي الليالي ، ففي ليلتي الأولى هناك كانوا يقيمون احتفالا كبيرا
عزف للموسيقى انتشر في الهواء ، عشرة رجال دخلوا في جسد تنين من تلك الأساطير التي كنا نسمعها ، فدبت في جسد التنين الحياة و راح يزمجر بصوت عال و ينفخ النار في الهواء !
و تحول الليل نهارا بعد أن راحت السماء تضيء بألوان حمراء و صفراء و زرقاء في مشهد بديع لم تره عين قروي مثلي من قبل.
لكن كل هذا الجمال كل هذا الجمال لم يكن يضاهي شيئا من جمال عيون هند...






هل يصل كلام النفس الى الحبيب البعيد ؟

كان كل شيء أمامي لكنني أحسست بأنني لا أنتمي لهذا المكان
ففي القرية كنت أعرف الجميع و كان الجميع يعرفني
و في القرية كنت إن أردت أن ارتاح ذهبت في مكاني الخاص عند أطراف القرية عند شجرة قريبة من النهر الذي يقسم قريتي إلى شطرين
حتى الأشجار في قريتي أحفظها و أعرفها جيدا كأنها بشر يعيشون معنا في القرية !
لكنني الآن ضائع لا أعرف هذا المكان و لا تلك الوجوه
حنيني يزداد لك يا هند كل ما مر الوقت
تحركت عجلة الأيام و الشهور و السنوات
كبرت و تغيرت ، تعلمت الكثير ... لكنني لم أنساك يوما
أمي أخبرتني يا هند أن بنت تاجر الحرير صديق أبي في الصين فاتنة الجمال
أمي أخبرتني يا هند أنني لو تزوجتها سأحظى بثروتهم وسأغدو من أصحاب "الشأن الرفيع" .
الشأن الرفيع !
لكن القرار ليس بيدي يا هند ، فقلبي اتخذ القرار عني منذ الصغر
و كبلني بأجمل قيد يكبل إنسان ، قد تستغربين كيف أصف أجمل ما في الكون بالقيد ، لكن لا تستغربي ، ففي الصين رأيت فرسانا يقال أنهم كالوحوش في المعارك يبدون كالحملان الوديعة بين أحضان نسائهم !
وا عجبا يا هند !
كيف يغدو الرجل مقيدا بين يدي امرأة ...







لقاء بعد عشر سنين ... القلب يتكلم
عشر سنين مضت من الغربة ، من الضياع ، من الشعور بالفقد
أخيرا سأعود الى طفولتي الى الكوخ الى النهر الى الشجرة
طريق الرجعة بدا لي أطول من طريق القدوم ، لأنني كنت متلهفا للقاء
راح قلبي يكلم هند و نحن في الطريق
عندما عدت من الصين لم أكن كالطفل الذي غادر القرية
عدت تاجرا خبيرا بشؤون الأقمشة تعلمت الكثير هناك ، تعلمت كيف أجذب الناس لبضاعتي و كيف أجعلهم يرغبون بشراء القماش
تحولت من ابن القرية المتواضع الى تاجر يبسط المستقبل له ذراعيه الواسعتان
حتما هند ستعجب بي و بما استطعت تحقيقه
لقد علمني التجار الصينيون كيف أتكلم مع الأمراء و الوجهاء و "أصحاب الشأن"
و علموني كيف أصنع من الكلمات شباكا أصطاد بها الناس !
و حتى أبي كان يستغرب من فصاحة لساني و من كلماتي النافذة للقلوب و العقول
لكنني عندما رأيتك يا هند انعقد لساني و أحسست بقلبي يخفق تماما كأنني طفل صغير
هكذا تخيلت ما سيحدث بيني و بين هند
رأيتها هناك و سرعان ما غيرت نظرها عني
ربما كانت تعتقد أنني نسيتها
ربما اعتقدت أنني تغيرت بعد غيابي عنها تلك السنين و أنني الآن عدت "التاجر" ذو الشأن و لن أنظر لقروية مثلها!
و راح القلب يخاطبها مرة أخرى
لا ألومك يا هند فمن يعش الدهر يرى عجبا، فالمال و الزمن يغيران الجميع
و قلة هم من صمد و لم يتغير أمام عواصف الدنيا
لو تعلمين كم انتظرت هذه اللحظة و كم مرة رسمت الموقف في مخيلتي و الحوارات
أنا لم أتغير أنا لازلت الطفل الذي تعرفين ، القروي الذي تركك قبل عشر سنوات و رحل،
أما آن الأوان كي نسلك الدرب الذي رسمه القدر لنا أنا و أنت يا هند ؟
أريد يا هند أن تنجبي لي بنتا لها عيونك العربية الواسعة الحزينة كالليل
أريد يا هند أن تنجبي لي ولدا يرث تجارتي
و أريد لنا أن نعيش سعداء في كوخنا الصغير، كالكوخ الذي خرجت منه قبل عشر سنين
أما هذا الخاتم الثمين المرصع بياقوتة فهي هديتي لك من الصين
لقد كنت أرسم الموقف بيني و بين هند و ما سأقول لها و ماذا هي أيضا ستقول !
رأيتها هناك في السوق و عرفتني من أول نظرة و سرعان ما غيرت نظرها عني
غابت هند عن ناظري و لكن لم تغب عن القلب لحظة منذ عشر سنين ...
أخرجت الخاتم من جيبي شعرت بقلبي يخفق كطير ، يا ترى هل سيعجبها الخاتم ؟
ظهرت هند من بين جموع الناس أمامي و بقربها رجل وسيم طويل القامة سألها: " زوجتي العزيزة ! هل تريدين أن تشتري شيئا من هذا المحل ؟ لقد سمعت أن بضاعتهم من الصين و أنها مميزة ؟"

سقط الخاتم من يدي ... ببطء سقط كأنه أخذ عشر سنين من حياتي كي يصل للأرض

علمت فيما بعد أنه ابن شيخ القرية ...
كانوا سعداء مع بعض
هذا كل ما استطعت أن أعرفه

شيطان العشق بدأ يقتلني بأفكاره كضربات خنجر مسموم تتسلل لقلبي كل ليلة
هل لا تزال تكن لي المشاعر ؟
ربما أرغموها
مجتمع القرية المتخلف !
ربما كبرت و تغيرت
ربما أنا لم أعرفها ربما هي ممن يهمه المال و الذهب و الفضة
الأفكار تتصارع في عقلي و قلبي يتفتت من الحزن

الشجرة حيث كنت أستأنس لم تعد في مكانها الذي كنت أعرفه ، حتى الشجر القديم في القرية غيروه اقتلعوه و زرعوا مكانه شجرا "مستوردا" من الخارجز
و النهر تغير ، غيره أهل القرية و صنعوا القنوات لكي تدخل المياه لبيوتهم و يسقون به بساتينهم حتى صار واهنا كأنه يحتضر
و كوخنا الصغير علمت أن أبي باعه لأحد أقربائنا و قرر أن يعيش في قصر صغير
القرية تغيرت كبرت و توسعت و بت لا أعرف أحدا فيها
كنت أعتقد أنني أنا الذي تغيرت بعد عشر سنين لكن وطني أيضا تغير مثلي و بت أنا و الوطن لا نعرف بعضنا !
بدأت أمر بنفس الشعور الذي مررت فيه في أيامي الأولى بالصين، ضياع و احساس بعدم الانتماء ، ماذا حدث في عشر سنين ؟
نظرت من شرفة بيتنا الجديد للقرية
هنا أدركت أنني انتهيت غريبا في وطني ...
لا مقام لي في القرية ، قررت أن أعود للصين ... لعلي أنسى هند ، فكيف سأعيش في مكان سيكون من المفروض علي أن أرى هند مع زوجها ؟
لكن أينسى القلب أروع اللحظات ؟
حين كان ينبض من أجل فتاة
أم تراني أنسى اسما كلما انبعث رنين حروفه على مسمعي عاد بي الزمن الى أجمل أيام كانت في حياتي




العودة .. بحث عن وطن
و عدت هناك ، غير أن الصين بدت لي هذه المرة مكانا أكثر دفئا من قريتي
فهل عشر سنين تستطيع أن تخلق وطنا ؟ لا أدري
مع المارة توقفت عند محلات تناثرت على جانب الطريق في الحي الفقير الذي لا بد أن تمر عليه قبل أن تصل الى قلب المدينة ، كان يقف هناك ، قد كسا الشيب لحيته الطويلة ، ملامحه عربية ، عينه مبيضة ذات نظرة متجمدة مهيبة كأنه يرى بها رغم أنه لا يرى ، كأنه يرى بها أشياء لا نبصرها، أخرج من جلبابه عصاه السحرية ، و راح يعزف قصتي للمارة ...
لم يا عازف الناي الحزين عزفت ؟
أنا كلما سمعت صوت الناي ذكرته ، فالآن وددت لو دام صوت الناي للأبد ، و القلب طيرا اطلقته فبت تائه بلا قلب ، فقد سافر قلبي يبحث في كل الصحاري القاحلة عن وردة من أجلها كنت يوما ما اعيش و من أجلها انعزفت تلك المقطوعة الحزينة ، لكن الا يعرف القلب ان الورد لا يعيش في الصحاري الخاوية ، بل يفضل قصور الامراء و السلاطين حيث البساتين و الانهار ؟
يا عازف الناي الحزين ...
أنا لا أدري كم غروبا للشمس علي أن أعيش قبل اللقاء به مرة أخرى، و رغم أنني أدري أنه لم يعد ملكا لي لكنني أشتاق لرؤيته و أعرف أن سعادة اللقاء به سرعان ما ستنتهي و يبدأ الليل من جديد ...
لم يا عازف الناي عزفت ؟
و أرجعت شيطان العشق من بعد غياب ليغرس خنجره في صدري و يسيل دمي كل ليلة على ضوء القمر ؟

رحل الناس لأعمالهم ، أما أنا فنسيت نفسي أمام سحره ، أحس بوجودي وحيدا فتوقف عن العزف
قال: لا تحزن و أخبرني
قلت له:ماذا أقول ؟ و من أين أبدأ و كيف ؟
قال: صوتك صوت شاب حزين ، و لا يتلقي الشباب و الحزن الا في الحب !
فقل لي يا بني، هل تؤمن بالحب ؟
قلت: كنت فيما مضى أؤمن إيمانا خالصا لا يشوبه أي شك، لكنني بعد أن فقدت فتاة أحلامي بت لا أؤمن بشيء !
تبسم و قال: ما أكثر من وقع منكم في شباك الحب معاشر الشباب !
ألا تؤمن بالحب ؟! اذن قل لي لماذا تعيش ؟!
يا بني ان الحب هو معجزة الحياة
و اذا شئت أن ترى معجزة في حياتك فان أول خطوة هي أن تؤمن بوجود المعجزات !
يا بني لا تحزن على ما فات، فانني عندما كنت بصيرا رأيت أن الحب يزور القلوب التي تؤمن به ، و انني يا بني رأيت يوما ما طيرا أعمى كحالتي نظرت اليه بشفقة و ظننت أنه ميت لا محالة لكنه كان يفاجئني كل يوم و كنت أراه عند باب بيتي يأتيه الرزق ، عندها أيقنت و تعلمت ألا أحزن على ما فاتني فان الذي رزق الطير الأعمى و الذي رزق هذا الشيخ الأعمى و الذي رزقك طوال حياتك أتعتقد أنه ينساك الآن ؟
و اعلم يا بني أن حبا انتهى يوما ما لم يكن في يوم من الأيام حبا حقيقيا، عليك أن تفتح عينك و قلبك ، و ابحث عن الحب الحقيقي الذي يدوم.
قلت: و كيف لي أن أنس يا شيخ ؟
قال: دع الأيام تفعل فعلها
و بنبرة شخص يرى المستقبل بوضوح و تقاسيم وجه عجيبة ساحرة قال: انك قريبا ستجد ما تبحث عنه !
قلت: و هل سأرضى ببديل لفتاة أحلامي ؟
قال: بعضنا يولد قنوع بما أوتي من رزق و بعضنا يتعلم القناعة بعد أن يمر بالألم و الدموع
لملم أغراضه و مشى
رحل و قد كان في جعبتي مئات الأسئلة.





نهاية النفق المظلم

تزوجت ابنة تاجر الحرير
بداخلي المقارنات و أشباح لهند تدور كدوامة تغرقني
لكن "سارة" كانت كل ما يمكن لي أن أتمناه في فتاة
و فعلت الأيام فعلها و أصبحت هند ذكرى عابرة ، كلمة جميلة في صفحة من صفحات حياتي
"الحب" لقد علمتني سارة الحب ، لقد علمتني أن الحب يمكن أن يولد من جديد، عشت أجمل أيام حياتي معها، تعلمت أن السعادة تأتينا لكن ليس باختيارنا نحن بل من حيث لا نحتسب.
قررنا العودة إلى قريتنا الصغيرة ، فنحن لا نريد لأبنائنا أن يكبروا في وطن ليس وطن آبائهم و أجدادهم
قد نحب إلى أقصى الحدود بحيث يصبح الحب هو الشغل الشاغل في حياتنا و في لحظة من اللحظات نتخيل أننا لن نستطيع أن نعيش من دون الحبيب لحظة، و عندما ننفصل تصبح حياتنا تعيسة بائسة بل ان البعض يشعر أنها نهاية الحياة ، لكن الله سبحانه وهبنا نعمة النسيان لكي نستطيع أن نتخطى أحزاننا.
كل غصة كل كبوة في حياتنا كل شوكة تؤذينا تجعلنا أقوى من ذي قبل ، قد لا نفهم الأحداث الا بعد حين و قد لا نفهم حتى بعد مرور الوقت لكنني استطعت أن أتيقن أن الله سبحانه كان يختار لي الأفضل في حياتي ، هذا كان درسي الذي تعلمته و كذا سيكون الدرس لأبنائي ..
النهاية.

__________
__________

لن أنهي البوست بحكمة كما تعودت لأنني أريدكم هذه المرة أن تشاركوني بآرائكم عن الحكمة من هذه القصة
و لا تنسون تعطوني رايكم بالقصة !