"كم شتاءً مر عصف بالبحر و هيج أمواجه الحزينة ثم رحل غير عابيء بالبحر العاجز و بالأمواج المتكسرة على الصخر؟"
لم يكن يدري من أين ظهرت أمامه هذه الكلمات!
استغرب كأنه رأى جثة منسية تعود للحياة!
كان ينبش في أوراقه القديمة و لا يدري عمَّ يبحث و لماذا، لكنه وجدها أمامه.
تذكَّر أنه قبل أسبوع، شاهد برنامجًا على التلفاز،
"لو كان باستطاعتك أن ترسل رسالة من وقتنا الحالي إلى نفسك في الماضي ماذا ستكون؟؟"
كان السؤال هو موضوع البرنامج الذي ظهر على التلفاز، كانت ردود الفعل بأغلبيتها تتسم بالطابع الكوميدي، لكنه لم يكن يبتسم، تساءل في نفسه ماذا ستكون الرسالة، لم يكن يدري ماذا يقول لنفسه في الماضي، لأنه اعتقد أن نفسه القديمة قد ماتت و دُفنت في مكان يعرفه، هو دفنها بيده، و هو كان متأكدًا أن الميت لا يعود للحياة، مر أُسبوع على السؤال الذي نُسي، كان ينبش في أوراقه القديمة لا يدري يبحث عن ماذا بالضبط!
عثر على احدى خواطره، كلمات قديمة تأخذه بالزمن للوراء، اكتشف أن نَفْسًا من أنفسه لا تزال تعيش في ورقة من اوراق الماضي، و أنَّ الأموات قد يعودون للحياة، قرأ الخاطرة:
كم شتاءً مر عصف بالبحر و هيج امواجه الحزينة ثم رحل غير عابيء بالبحر العاجز و بالأمواج المتكسرة على الصخر؟
كم يشبه رحيله رحيل كثير من البشر تاركين خلفهم قلوبًا مهشمة، بشر من أولئك الذين لم يمُن الله سبحانه عليهم بقلب، أو من الذين وَأَدُوا قلبهم في مكان ما في صحراء قسوة الحياة، فهل يا تُرى كان للشتاء قلب ينبض يومًا ما لكنه وُئِد ؟
أم أن الشتاء كان منذ بدء الخلق بلا قلب ؟
و ألا يتعلم البحر الدرس المؤلم؟
لِم يُصر على لعب دور البريء ؟
هل الأمل بوجود الحب يدفعه نحو الانصياع للشتاء كل مرة؟
كم شتاءً مر ماشيًا على جثتي المحترقة و لم يلتفت حتى لبشاعة المنظر؟!
مر و لمْ يحاول حتى أن يمسح بأنامله الباردة المتجمدة على جراحي التي تنزف لهبًا.
هل لهذه الدرجة كنتُ هباءً ليست له قيمة ؟
و هل كانت جراحي التي رُسمت على جسدي بخنجر الانتظار المتعرج النصل التائه في طرق قلبي جراحًا تعوَّد على رؤيتها الشتاء عند غيري من البشر؟
أم أنني صرت رمادًا ينتظر الرياح لتحمله إلى أراضي النسيان و لا أمل في شفاء جراحي؟
و هل أوشام الأفكار السوداء المنقوشة بزخرفة على جسدي مُتوقعة ؟
مألوفة بالنسبة للشتاء، هي نفسها التي رآها في رسومات البشر البدائيين في الكهوف المظلمة، تلك التي تروي معاناتهم مع الحياة و تدق بمطرقة القضاء الأبدي حكمًا لا مفر منه ،يقضي بأن الألم شرٌ لا بد منه.
انتهت الخاطرة، أمسك بالورقة و أتى بالقلم و خرج إلى البحر، راح يكتب مكملًا الخاطرة:
أنا الآن أقف أمام البحر، كل شيء يبدو مختلفًا عن ذي قبل.
ما خطب الشتاء يا بحر ؟!
لِمَ صار اكثر دفئًا من ذي قبل؟!
لِمَ صرتُ أشعر بعطفه على الكائنات؟
هل تلك لعبة من ألاعيبه التي خدعك بها يومًا يا بحر ؟
هل هو قناع اعتاد ارتداءه تفضحه عيونه الناظرة من فتحات القناع؟
هل يُعقل؟!
هل قرر أن يتوب عن ذنوبه و أن يعتكف بقية العمر في صحراء خاوية بحثًا عن قلبه الموؤد ؟
غير أن قلبي يهمس لي باحتمال آخر.
هل هو الحب ؟؟
ذاك الذي تصفه الكتب، عندما تتغلغل أنامله الوردية داخلةً أجسادنا من خطوط الكفين منتشرة في كل عرق حتى تصل للقلب.
إنه الحب الذي يصنع معجزة لا يراها على هيأتها إلا من وقع في الحب.
و هو الحب الذي يجعل الوحش انسانًا، و أحيانًا الانسان وحشًا.
اي و الله إنه الحب، لم أتوقع أن يكون بهذه الروعة بل أجمل، يغيَّر كل شيء حولنا، فنبصر كل شيء كأننا نراه لأول مرة.
تغيرت وجوه البشر، و تغيرت وجوه الكون، بتُّ أرى وجهًا جديدًا للشتاء لم أكن أعرفه من قبل.
نعم إنه الحب و ليس غيره، ذاك الذي يرسم لي صورة حبيبتي في كل مكان.
أرى انعكاسها على جسد البحر الأزرق و هي تبتسم.
أراها مرسومة على لوحة الليل، تقف أمامي عروسةً، ثوبها مرصع بالنجوم و وجهها البدر المتلألأ.
قلبي يحدثني بذلك، حتى أنتَ أيها البحر تغيرت بعد أن عرفتُ أنا الحب!
ألم تلاحظ أن موجك صار أكثر هدوءً ؟
يلامس اجساد السفن المرهقة برقة النسيم الذي يداعب وجنة وردة، يمسح على جراح السفن الصدئة.
لِم تغيرت أمواجك ؟
و أنت الذي كنت يومًا ما ترش ملحك في جراح السفن فتغلي ألمًا... تمامًا كما كانت تغلي جراحي عندما أقتربُ منك و اشكو فقدي ...
إذًا أيها البحر بتنا متفقين أنا و أنت أن الشتاء له قلب لطالما أخفاه داخل ردائه الأسود المهيب، لكن علينا أن نتأكد من ذلك في السنة القادمة !
لكن قلبي لايزال يهمس لي أنه الحب هو الذي أعاد قلب الشتاء للنبض من جديد ...