الأربعاء، 18 يوليو 2012

همس النبضات ... تعلمت في الخفارة 6

 
 
عند كل نبضة من نبضات القلب هناك صوتان تُميزهما الأذن بالسماعة الطبية، بين كل صوت و صوت فاصل قصير ثانية أو أقل، و أيُّ صوتٍ دخيل بين الصوتين يدل على وجود عِلة بالقلب، هكذا تعلمت في كلية الطب، لكنَّ قلبها لم يكن كبقية القلوب التي سمعتها من قبل، كان به همس غريب يُعاد مئات المرات بلا كلل أو ملل، همسٌ لا يفهمه إلا الذي يعرف لغة القلب.

استغربت، فبين صوْتَيْ قلبها لم تكن هناك ثانية واحدة، بل طريقٌ طويل، مسيرة سنة ، طريقٌ كل الأشياء تبدو فيه ملونة بلونين فقط، الأبيض و الأسود، غير واضح النهاية، مرصوف بذكريات مُرَّة و حلوة ، على الرصيف دُمية مفقودة الذراع، رسمة طفل صغير بها بيت سقفه مثلث احمر ، حقيبة مدرسية زرقاء بالية، بنطال رمادي به شق صغير عند منطقة الركبة، و قميص أبيض حزين به تجاعيد، كأنه هرم كما يهرم البشر.
مسيرة سنة هو الفاصل الذي كان بين صوتي قلبها، تعجبت ! فكيف لقلبِ بشر أن يحوي ما حوى قلبها ؟


في العيادة كان الطبيب جالسًا على مكتبه ينتظر المريض التالي، دخلت امرأة في نهاية الخمسينيات، لا تزال صامدة في مواجهة تبدو كأنها بدأت منذ الأزل مع امواج السنين، تلك الامواج التي تنحت قلوب الناس و تغيرها مع مضي الزمن إلا قلة، دخلتْ مع زوجها، رجل أسمر نحيل بلحية خفيفة تسلل الشيب اليها، ذاك الزوج الذي أحبها كل تلك السنين و لم يعرف قلبه غيرها، أول سؤال وجهه لها الطبيب: ِلمَ تبدين حزينة يا أُم محمد ؟

حَاوَلتْ ان تخفي حزنها بابتسامة خجولة، لكنَّ أنفاسها العليلة كانت تبوح بالأجوبة، و في عيونها العسلية تستطيع أن ترى نافذة غرفتها و هي تطل من النافذة في ليلة مظلمة لا تدري إلى أين تنظر من تلك النافذة.
قال الطبيب معاتبًا: لقد وصيتكِ في الزيارة الماضية أن تبتعدي عن الحزن لأنه يهدم الجسد كما يهدم الروح، فلم كل هذا الحزن يا أم محمد؟

سَالَتْ من عينِها دمعة، قطرة، كانت أشبه ببحر عميق له أمواج، بحر دافيء من الشوق، بحر به المد دائم بلا جزر، لكنَّ أمواج البحر ضعيفة حائرة سرعان ما تتكسر قبل أن تصل الى شاطيء مُناها.

قالت بصوت خافت و الكلمات صارت تتوه بين قلبها و لسانها: ليس شيئًا ذو أهمية يا دكتور.

أصر الطبيب ان يعرف سبب حزنها، صمتت، قال زوجها للطبيب : ابننا لا يكلمنا منذ سنة !

اكمل الزوج كلامه: انه الابن الوحيد من بين اخوته الذي شَقُّوا بطنها كي يأتي للحياة، انظر كيف يرد الجميل !

هز الطبيب رأسه كأنه يعرف جيدًا تشخيص المشكلة و العلاج: لا تحزني و لا تغضبي، لا توجد مشكلة بالحياة لا تحل، كل الابناء هكذا!

قالت له : لستُ غاضبة منه، لكنني أخاف عليه، أخاف لأنَّ الله سبحانه سيحاسبه لأنه لا يكلم أُمه !
قال الطبيب: سامحيه إن أردت ألا يحاسبه الله.

قالت: يشهد الله أنني لست غاضبة عليه و قد سامحته منذ زمن لكنني لازلت أخشى أن يحاسبه الله ...

ابتسم الطبيب ابتسامة عجزٍ، أحس بالعجز امام قلب كبير، أمام كيان مقدس يصل صوت نبضه للعرش قبل أن يرتد طرف العين.

كنتُ جالسًا معهم اسمع قصتهم، طلب مني الطبيب أن أفحص قلبها...

عند كل نبضة من نبضات القلب هناك صوتان تُميزها الأذن بالسماعة الطبية، يفصل بينهما ثانية أو أقل، هكذا تعلمت في كلية الطب، لكنَّ قلبها لم يكن كالقلوب التي سمعتها من قبل، فبين صوْتَيْ قلبها لم تكن هناك ثانية واحدة، بل طريقٌ طويل، مسيرة سنة، و بين صوتي قلبها همس غريب يُعاد مئات المرات بلا كلل أو ملل، همس لا يسمعه إلا الذي يعرف لغة القلوب.

ربما كان صوت قلبها يهمس اسم ولدها الذي لا يكلمها منذ سنة، ربما كان ذلك أنين الشوق إليه، ربما كان ذلك الهمس مرضًا بالقلب، بصمَّامات القلب أو بعضلة القلب أو بشرايين القلب، لستُ متأكدًا من تشخيصي، فأنا لازلت لا أدري إن كان قلب الأم كباقي قلوب البشر ...

_________________________________
_________________________________
 
" ألا أدلكم على أكبر الكبائر ؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: الاشراك بالله و عقوق الوالدين"
النبي محمد (ص)
 
"ثلاثة من الذنوب تعجل عقوبتها و لا تؤخر الى الآخرة، عقوق الوالدين، و البعي على الناس، و كفر الاحسان"
النبي محمد (ص)
 
"تحفة الله الرائعة هي قلب الأم"
اندريه غريتري - موسيقار بلجيكي
 
"أعظم كتاب قرأته، أمي"
ابراهام لنكولن-رئيس امريكي